جريدة وجـــــــــــــــــــــــدة
  عزيزتي مصر
 

وتطغى الرغبة فتتحقق الأمنية وأجد نفسي حيال أروع ما بناه الفراعنة منذ ألآف السنين ، وعلى بعد أمتار يتعالى الرأس الشهير لأبي الهول في شموخ الأزمنة البائدة ، يصارع آهات العابرين في خطوات مثقلة بالإعجاب لهذه البقعة الرهيبة ، يتمتمون بكلمات .. أكبر منها الإحساس بعظمة اللحظة / اللقاء . فيتوه الفكر فيما لا نهاية له إلا هذا الواقع والغبار يتطاير بين حوافر خيول يجمع الماسكون بها لقمة العيش

 

    كبرت في وجداني محبة مصر مذ كنت طفلا ألهو بين حارات مدينة القصر الكبير . وحينما اتذكر تلك الأيام الخوالي  يحلو لي تبيان ما اختزنته ذاكرتي من صور لطيفة عن هذا البلد . استرجعها الآونة فأشعر بالمتعة والسعادة . حينما كنا " شلة " من الأصدقاء جمعتنا المدرسةالأهلية الحسنية لتحصيل دروس التاريخ والجغرافية .. فلم نستوعب أحسن وأزيد من استيعابنا لجغرافية مصر ، وجزء بسيط جدا من تاريخها العظيم نتسامر به ونفخر بين أزقة المدينة العتيقة بمعرفتنا موقع مصر على الخريطة  .. حيث تأتينا تلك الأفلام  التي طالما " انضربنا " ونحن نلتمس الاعذار من تسربنا لمشاهدتها  في دار سينما " بيريس غالدوس " ( ساحة السويقة الآن ) التي كانت تزدحم بعشاق محمد عبد الوهاب ، للتفرج عليه وهو يشدو بأحلى الأغاني في فلمي " يوم سعيد" و " الودة البيضاء " وغيرهما . فلا نكترث بالضرب حينما تجمعنا بيوت أهالينا في المساء . فالآباء حريصون في ذلك على متابعة أطفالهم الدراسة والتحصيل بدل الإنشغال بصور لا طائل من تتبع حركاتها . كنا نتحمل العناء ، والتعب ، وعذاب الضرب من أجل سماع صوت مصر ونحن أطفال . كما كنا نتلقى العلم عن مؤلفات مصرية ، وبين هذا وتلك ، نسمع المذياع واللهجة المصرية تنساب منه .. تحكي لعقولنا الصغيرة ، أنذاك ، ما جعل الوجدان فينا يتطلع ليوم آت تتحقق فيه الأمنية ونزور تلك الأرض الطيبة ونشبع أعيننا من رؤية جمالها الساحرالذي طالما تلألأ في مآقينا أحلاما وردية صعبة الوصف . ولا أعتقد أن مدينة مغربية أحبت مصر أكثر من " القصر الكبير " . ومن ينتسب إليها لابد وقد جاهد الظروف وبعد المسافة من أجل الإلتحاق بها ليحيا لحظة الإنبهار المرسومة في ذهنه مباشرة دون خيال يحجز الواقع في قفص المستحيلات . ولكنها اللهفة لإحتضان عشيقة رسم ملاميحها بأحاسيسه كلها ، فعاش العمر يترقب اللقاء بها . شعورغريب يربط الإنسان بماضيه ، بطفولته ، يعيده لوعي غمر فكره أثناء عهده الأول بالحياة وهويسير تتقاذفه تصورات ومواقف  يتخيل نفسه داخلها  وهو يردد نفس الكلمات بلحن يسكن دواخله في صمت، لا يكاد يجهر به ، حتى يرتاح من غليان شغل صدره بما يجيش فيه من لوعة. وبئس الغليان في عقلية الآباء .. إن كان مقطعا من " أحب عشة الحرية

يتبع

مصطفى منيغ



لا أرى حقا ما السر في هذا التجاوب المحير ، والتعاطف البريء ، بين جموع البشر وهذه الحجارة الناطقة رغم صمتها الدفين بألف حكاية ، عن ألف أسطورة ، عن ألف صورة ، عن ألف بصمة متروكة في حجم البقعة .. حيث مر " خوفو " متباهيا بصنيع قومه ، ومعجبا بشخصه ، ومزهوا بما ظن أنه إكسير يخلد حياته رغم الرحيل

 

كانت القصر الكبير حبلى بعطاءات فلذات كبدها من مختلف الأعمار . لم يستطع الإستعمار الإسباني محو معالم ارتباطهم بعروبتهم بما حفظوه من أشعار حافظ إبراهيم ، وأحمد شوقي وغيرهما كثير . وبما تغنوا به من ألحان سيد درويش ، ومحمد عبد الوهاب وغيرهما كثير . وبما درسوه عن مصطفى لطفي المنفلوطي ، وطه حسين وغيرهما كثير . كانت الأشعار تتوافذ على المدينة بعشرات القصائد ، اما الأغاني فما هدأت الساحات من صدى ألسنة الناس وهي تردد الجديد منها على امتداد النهار . اما الكتب فكانت تنتقل من يد إلى أخرى في حنان واحترام  مما جعلها مطمح كل بيت فيه تلميذ يريد شق طريق المجد والإرتواء من منهل العرفان الصافي . فكيف سيكون مآل مدينة كهذه عاشت مصر في وجدان أهاليها مصانة الجانب معززة المقام قصيدة شعرية ، وزجل مغنى ، وأدب مقروء ..؟ إلا الاعتزاز بمصر كبلد عربي أصيل ، تعلموا منه فضيلة التضحية ، وجمال الإخلاص للوطن ، ومكانة التعلق بالحرية .  لذا لم يكن غريبا علي هذا الذي شرحته  ـ قدر المستطاع ـ وأنا أطل من نافذة الطائرة المحلقة على ارتفاع منخفظ فوق سماء القاهرة " قاهرة" الأربعة عشرة مليونا .. " قاهرة " النيل الخالد.. " قاهرة " السبعة ألآف سنة عرفتها مصر حضارة وتراثا إنساتيا سيبقى مشرق المعالم ما بقيت الحياة .." "قاهرة "هؤلاء الاساتذة الأجلاء الذين تتلمذت على أيديهم سواء داخل ثانوية " المحمدي" بالقصر الكبير، أو البوليتكنيك" في تطوان ، أو" المعهد العالي للعلوم الإجتماعية" الذي كان تابعا أنذاك لجامعة محمد الخامس بالرباط العاصمة ..  " قاهرة " العباقرة الذين عرفتهم الساحة العالمية قدوة للفكر المبدع الخلاق في جل الميادين .. " قاهرة " العبور من أجل استرجاع كرامة العرب في حرب أكتوبر المجيدة .." قاهرة " الأزهر الشريف الذي ما مرت لحظة وجيزة إلا وكان جهاده أقوى لنصرة قضايا الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وما مر يوم إلأ وزود عقل المؤمن ولبه بما يقيه من شرور الأنفس الضعيفة ومنحه القوة العلمية ليغدو معلمة فكرية منيرة تضيئ مسيرة الناس نحو الصلاح والفلاح

يتبع

مصطفى منيغ

وأي انبهار ممزوج بالحسرة لمجرد إطلالة قصيرة على مساحة أختيرت لتبقى على حالها مهما تعاقبت السنون وتواصلت الاجيال ؟ . فالدنيا مليئة بالمفاتن .. لكنها مصر .. العروس الأكثر فتنة .. يذوب الوجدان كلما رمقها البصر عن حسن نية .. و امتدت الأحاسيس للإرتواء من عطر أيامها . لكتها مصر .. قافية قصيد الحب والرجاء ، وترنيمة العشق والضياء . لكنها مصر المفاخر مذ كانت طفلة .. ومصر الأمجاد مذ كانت صبية .. ومصر العزة وقد أصبحت بمآثرها للمعمور أغنية

ما أن فتح باب الطائرة حتى تسرب هواء مصر الممزوج بطين النيل يملأ الصدور العاشقة عبر السنين هذاالمنهل الطيب  وكأنه يرحب في " خفة دم " بالزائرين القادمين إلى أرض الكنانة لمعايشة تلك الأيام التي ما خلى كتاب عبر العالم  إلا ومنحلها من التقدير ما جعل منها منارة تطال القارات الخمس وهي تشحن العقول بمعنى النضال الحق من أجل إتبات الكرامة ، وصيانة الشخصية الذاتية من شوائب الأنكسار . كنت ساعتها الوحيد من مدينة القصر الكبير المغربية أحمل بين جوانحي اسماء العشرات من أصدقاء الطفولة  نشرتها مع ذبذبات الصوت على أرضية مطار القاهرة الجوي ، الذي أحال الليل بيني والتمعن الكافي في محاسن بناءاته المهيكلة . المهم إنها لحظات والحافلة تفتح لنا الباب لتوصلنا في سلام وأمن و طمأنينة إلى مدخل القاعة المهيأة للإجراءات القانونية التي تسمح للزوار بموجبها الولوج رسميا إلى أرض جمهورية مصر العربية . لم تأخذ تلك الإجراءات الأمنية وقتا يذكر ، بالعكس .. ذهلت من السرعة التي انتهت إليه الأمور ليفسح لنا ضابط الأمن الطريق لنعانق " القاهرة " كما نشاء ونرضى . وللحقيقة الثابتة ، إنني كلما قدمت جوازسفري بطلب من رجل أمن أو  جمركي إلا وسمعت منهم مدحا صادقا لوطني المغرب ، وحديثا طيبا عن أهل المغرب . فما زادني ذلك إلا حبا وإلتصاقا بمصر وشعب مصر الطيب الكريم المضياق . كاتن الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل حينما أخذت طاكسي من فتدق " ميناهاوس " متوجها إلى مدينة " القناطر الخيرية " . ظل سائق الطاكسي الشاب ساكتا ، وكأنه قرأ من ملامحي أنني غريب ، فما استطاع أن يسأل ، حفاظا على راحتي حتى في الكلام .. إلى أن وصلنا مكانا فهمت بتواجد العساكير فيه أنه حاجز للتفتيش . إبان ذلك طلب مني السائق أن امده بجوازسفري ليقدمه بدوره إلى العسكري الذي دنى مني وبأدب جم خاطبني : ـ الأخ من المغرب ؟ . ـ نعم . ـ أهلا بك في مصر معززا مكرما . وهنا توجه بالكلام إلى سائق الطاكسي وخاطبه قائلا : " إوعه تكسفنا مع الرجل .. وديه للحته اللي هو عوزها .. فاهم . أجابه السائق وكله أنتباه : حاضر يا فندم .. إطمئن يا به .. من عني الإثنين  يا باشا ... مع السلامة

يتبع

مصطفى منيغ

ربما كان هذا وذاك .. نكهة خص بها ناريخ الإنسان مذ كان هذا التراب المستحم في ماء النيل النبيل .. يتناقلها نسيم المعرفة الصادق بين الألباب مهما نأت ديار أصحابها بعضهم عن بعض ، ومهما حجبت الفاقة هؤلاء أو هؤلاء عن المجيئ إلى ها هنا .. لمعانقة شذى الحنين إلى الصفاء والجمال . بالرغم من ذلك فالجموع واصلة حيث المنبع وقفة تأمل لمقارنة الحلم بالعزيمةوصلتا إلى مدينة"القناطر الخيرية" والساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل . الكل هنا هادئ ، الناس في منازلهم ( في أعز نومة ) الشوارع خالية من المارة . حتى العربات لا أثر لمرورها بما تحدثه من أصوات عادة . سألت سائق الطاكسي  الذهاب بي إلى أي فندق . لكنني اندهشت حينما أخبرني أن "القناطر الخيرية" خالية من الفنادق . فماذا أفعل ؟ . لم أفكر طويلا بل طلبت منه التوجه بي إلى مقر المركز وهناك سأتدبر أموري . بالفعل أوصلني إلى بناية مطلة على الطريق الرئيسي ذات الواجهة الهندسية الجميلة ، والباب الزجاجي الكبير.. فولجت من الخلف .. وفي تلك اللحظة انبرى عسكري المطافئ مصوبا فوهة بندقيته إلى صدري صائحا : قف مكانك .. من تكن ؟؟ .. قالها والعجب الممزوج بالغضب قد حول سحنته السمراء إلى جمرة حمراء .. فتيقنت أن العسكري لا يمزح ، وأن أصبعه متبوت على الزناد ، ولا مناص لي من الوقوف بلا حراك. لكن الله سبحانه وتعالى أنزل لطفه بنا تلك اللحظة وفهم العسكري أنني ضيف مغربي على " القناطر الخيرية" ، وأن ما أحمله في الحقيبتين هندام لي لا أقل ولا أكثر . فأشار علي بالتوجه إلى الناحية الأخري للبناية ، وسيفتح الحارس الباب لي لأستفسره عما أريد . صفقت بحرارة لهذا العسكري واسمه : علي عبد المقصود  من المطافئ .. صفقت لهذا الحارس الأمين الذي ما داعب الكرى جفنيه ولا إغراء دفء الفراش عن القيام بواجبه ، وما اوقفه عليل الليلة المنعش عن حذر إلتزم به حفاظا على أمن المكان المكلف بالدفاع عنه وبسط الشعور بالأمن حوله . وهنا تيقنت أن العسكري المصري في مستوى المسؤولية ، وأن مصر مصاتة بجفون أبنائها البررة ونبظات أفئدتهم وقوة سواعدهم

يتبع

مصطفى منيغ

 

أوقفني أحد الجدران وقد رسم على طوله وعرضه علمي البلدين الشقيقين المغربي والمصري جنبا لجنب . وهنا وجب التذكير بعبقرية الأشقاء الذين اختارواهذا المكان بالذات حيث يمر الآف الطلبة والطالبات ليجسدوا في ذهنهم هذا العناق القوي بين مصر والمغرب ، وليس أفضل من عيون الناشئة في تمعنها لهذا المنظر المفعم بأغلى المعاني فتح الباب الزجاجي فانبرى رجل مرتديا جلبابا مصريا تقليديا تعلو قسمات محياه علامات التعجب .. لكنها لحظات قصيرة ليتخذ النعجب شكل ترحيب أساسه طيبوبة قلوب المصريين وسماحة خاطرهم وشيمهم الرفيعة المستمدة من الشريعة الإسلامية السمحة ، فامتدت يد الرجل تصافحني بحرارة ، وبدون أن يسأل عما أكون أخذ بيده الأخرى إحدى الحقيبتين .. وبالتحديد أكبرهما ، جاذبا إياي في لطف نحو الداخل مقدما إلي فراشه حتى أستريح من عناء السفر . ومن الامانة القول .. أن صاحب الطاكسي لم يبح المكان حتى اطمأن  أنني الآن بين أيادي أمينة وأنني لم أعد في حاجة إلى خدماته ، فكان بحق نعم المرافق ونعم القائم بواجبه . الرجل الذي خصني بكرمه وتنازل لصالحي عن فراشه لأنام في سلام.. يطلق عليه في مصر " عامل السويتش " وعندنا في المغرب .. المكلف بمراقبة الهاتف وإيصال المكالمات حسب إتجاهاتها لهذا المسؤول أو ذاك ، وتلقى الإشارات والتعليمات أثناء أداء عمله الليلي . الرجل إسمه السيد شعبان عبد الغفار . وللحقيقة اسجل هنا .. أن هذا الرجل جعلني لا أندم عن محبتي لمصر .. بل جعلني أغوص إلى جوهر هذا الأرتباط الروحي الذي يجمعني والأنسان المصري أينما كان وكيفما كان .. لأتعلم وأفيد ، وقد خرجت حمدا لله بما يرسخ ما تمسكت به طوال حياتي من خيط رفيع لكنه قوي لانه شريف ونظيف يجمعني وهذا الشعب المصري الأصيل الطيب الشجاع المقدام الوفي المجاهد المؤمن بالله اسمى ما يكون الأيمان المحب للخير

لم أقدر على البقاء في تلك الغرفة .. كان الشوق لمعانقة مصر اقوى من النوم وأشد من الإنزواء للراحة . فخرجت . لا أدري إلى أين ؟ .. لكنني مشيت فوق أول طريق واجهني بمحاداة النيل العظيم .. حيث بساط صبغه القمر من ضيائه المنعكس في تناغم على لجين الماء .. وحيث خرير المياه تموجات تتصاعد صوتا " حنينا" .. تترجم تلاحم مياه حلوة بتربة طيبة خلق كل منهما للآخر لتكون الحياة وتبقى نضرة يانعة  تطفو بهالة من الجمال الفاضل على سطح مصر وتزرع جذورها في جوهر نفس البلد لضمان استمرارية العطاء في مستوى مسؤولية مصر وموقعها لحكمة مقدرة لا يعلمها إلا الباري جل وعلا .. وما أنبلها وأكرمها أطيبها من حكمة

 

كم كنت سعيدا بزيارة تلك المدرسة النمودجية التي أعجبني نظامها التعليمي وحرص أطرها الشديد على أداء واجبهم المقدس أحسن أداء . فأينما وجهت بصري لا أتلقى غير الأشياء المعبرة وبصدق عن حسن تدبير إدارة المؤسسة و برعاية مديرتها على إضفاء حماس من التعاون بين الجميع لتعم الفائدة وترتاح الضمائر

ومع بزوغ خيوط الفجر الأول وجدت نفسي وسط ساحة بدأت الحركة تدب فيها رويدا رويدا إلى أن وصلت الذروة . وكان هذا أول لقاء مباشر لي مع الشعب المصري ، والحياة المصرية على الطبيعة وبعيدا عن شاشة التلفاز ، حيث المسلسلات تتفاوت في نقل حقيقة الشارع المصري . جلست على مقهى تقدم " الشيشة " لأحتسي كوبا من الشاي التقليدي المصري ولأتفرج في إنبهار وإعجاب على آلة حديدية يصدر منها هدير .. تدور بمادة أو " عجين" أخضر اللون بداخلها دورات مسرعة تتخذ معها تلك العجينة شكلا  لزجا بعض الشيء . وبجانب الآلة إمرأة منهمكة في إعداد وعرض " رغيف العيش " وتنظيف بعض الصحون المختلفة الأحجام و الألوان ، تظهر بين الحين والآخر عن أطعمة مهيأة من قبل أبرزها " الفول المدمس " / وفجأة تتجه نحو الآلة لتوقفها وتخرج منها العجينة الخضراء وتعالجها باليد مانحة لها شكل أقراص في حجم وسط كف اليد ثم تضعها في مقلى لتنتهي في طبق العرض  صفراء يعض الشيء يقتنيها الزبون بخمسة وعشرين قرشا ليزدردها في لذة . وقد علمت ، فيما بعد أن الأمر يتعلق بقرص " الطعمية " ، الأكلة الشعبية الثانية بعد الفول المدمس في مصر

عدت إلى المركز أو بالتحديد إلى مقر الوحدة المحلية لمركز ومدينة القناطر الخيرية . لأجد هناك مجموعة من السادة المسؤولين في إنتظاري لتبدأ الزيارة التي تركت الأثر الحميد المحمود في نفسي ، والتي جعلتني أنا المغربي والمصري إنسان واحد تجمعنا الروح الإسلامية السمحة ، والقيم الرفيعة ، والأعراف النبيلة ، والغيرة الوطنية ، والشهامة العربية وبكل مقومات الرجولة والشجاعة . وجدت هناك الاستاذ احمد عبد المومن بحيري ، مدير مكتب رئيس المركز ، الذي لم يترك مشروبا واحدا دون أن يعرضه علي ، بل أقسم أن أتناول وجبة إفطار كاملة داخل مكتبه ، وهو كرم لطيف منه . فلم يكن علي إلا  الإنصياغ ولساني عاجز عن شكره . بعد ذلك تعرفت على الأساتذة : سيد عامر ، مدير إدارة التخطيط ، وشاكر هيكل ، مدير إدارة السياحة ، وجميلة أحمد موسى ، سكرتيرة رئيس المركز ، وصادق حسين  صادق من مكتب رئيس المركز ، وأخيرا أخي وزميلي العزيز محمد سعيد ابو زيد ، الذي مهما شكرته لن اوفيه حقه ، فالرجل نسخة طبق الأصل للمصري الذكي المتعلم ، المتواضع في قوة ، المستحيي عن إيمان ، الصابر عن مبدأ ، المبتسم عن طيبوبة قلب، المتجهم عن قناعة ، المتزن عن ديبلوماسية ، الصائب في الإختيار عن دراية شديدة العمق ، الإنسان بكل الأحاسيس والتطلعات والطموحات والعواطف وبالتالي  بالعقل المشحون بالجدية في تصريف الأمور وتدبير المسؤولية التي يتحملها عن جدارة واستحقاق . اما المهندس عبد الحميد توفيق نصار ، رئيس مركز ومدينة القناطر الخيرية فذاك مدرسة وللمدرسة حقوق الاسهاب في وصف أقسامها  وما تحتضنه من مواهب ، وما تخفيه من تقنيات كفيلة بتحريك جموع من المتلقين  حيث تريد ووقتما تريد. وأرجيء الحديث عن هذه المدرسة لوقت لآحق من هذا التحقيق الصحفي غير العادي

يتبع

مصطفى منيغ

إصطحبني المهندس عبد الحميد به (هكذا يسمونه هنا ) لزيارة مدرسة تحتفل ببعض تلميذاتها الفائزات في مسابقات شتى على صعيد دولة مصر كلها . وكانت مناسبة طيبة للتعرف وعن كثب .. عن الأسلوب المتبع في المدارس المصرية ذات التخصص والبرامج والمناهج التعليمية عموما . وكانت الكلمات التي سمعتها عن المسؤولين عن هذه المؤسسة .. أن حقيقة النجاح الملحوظ فيها أساسه إحترام الملقن لواجباته التربوية ، بالإضافة لمحبة هذا الملقن لمهنة التعليم التي اختارها وحولته إلى ضمير حي تقاس به درجة الغيرة الوطنية والحماس لتكوين جيل صالح قادر على مواجهة تحديات كل المراحل القادمة . وكم كنت سعيدا وأنا اتقبل باقة ورد مهداة إلي من الأستاذة الفاضلة فتحية محمد يوسف المليجي ، مديرة الإدارة التعليمية بالقناطر الخيرية باسم المدرسة إدارة وأطرا وتلميذات ، وكنت أسعد بالكلمات الطيبة التي فاه بها الأساتذة المحترمون في حقي كصحافي مغربي ، الشيء الذي حتم علي أن اتناول الكلمة بدوري لأرتجل ما نصه : " حبذا أن أواجه نفس الموقف المشرف في كل مؤسسة تعليمية على امتداد الدول العربية . وحبذا لو كان هذا الأسلوب التشجيعي مكرر من المحيط إلى الخليج . لا عجب أن نرى هذه المرحلة المتقدمة في المجال التعليمي المصري .. ذلك أن مصر قادرة على الإبتكار لتكوين أجيال في مستوى المعركة المصيرية مع الحياة . من مصر تعلمنا ولا زلنا نتعلم . وسآخد من هذه الشهادة التقديرية الممنوحة للتلميدة لمياء فهمي عبد الحميد عينة للمطالبة بتعميم هذه البادرة ، بحيث يوجه التلميذ أو التلميذة لتعلم أسس بعض الحرف الضرورية منذ الخطوات التعليمية الاولى .. بل وتخصيص حوافز تشجيعية لهم كالممنوحة الآن وفي مدرستكم هته للتلميذة لمياء في الفنون المسرحية . وشكرا لكم

 وتجدر الإشارة بالمناسبة أنه من بين  الطلبة والطالبات الفائزين على مستوى جمهورية مصر العربية والحاصلين على شهادات تقدير وشهادات استثمار من وزارة التربية والتعليم  نجد 1/ لمياء فهمي عبدالحميد من مستوى الثالث ثانوي عن مدرسة التجارة بنات بالقنالطر الخيرية .2/ سلوى إبراهيم عمر.. من مستوى الثالث ثانوي عن مدرسة التجارة بنات بالقناطر الخيرية . 3/ مرفت علي محمود.. من مستوى الثالث ثانوي عن مدرسة التجارة بنات بالقناطر الخيرية . 4/ محمد طاهر عمر.. المستوى ثاني ثانوي عن المدرسة الثانوية بنين بالقناطر الخيرية .5/ عمر سعيد عقيقي .. المستوى الأول إعدادي من مدرسة خالد بن الوليد الإعدادية .6  علا محم دمحمود المستوى الثاني ثانوي عن المدرسة الفنية الصناعية بالقناطر الخيرية .7/ محمد سلامة أحمد الثالث ثانوي عن مدرسة الصنائع بالقناطر الخيرية . 8 أعيد مصطفى أحمد..  الثالث ثانوي عن مدرسة الصنائع بالقناطر الخيرية . وقد فاز هؤلاء في التفوق المسرحي  تحت إشراف الأساتذة : عبد الفتاح سعد الدين  .. نجوى بوغلي .. ماهر الشيخ .. أنور عبد المنعم .. حمد عثمان

يتبع

مصطفى منيغ

 

وصحبة المهندس عبد الحميد به ،وبعض الإخوة والأخوات من أسرة إدارة التعليم بالقناطر الخيرية عبرنا شارعا أوقفني فيه أحد الجدران المطلة عليه وقد رسم على طوله وعرضه علمي البلدين الشقيقين المغرب ومصر جنبا لجنب . وهنا وجب التذكير بعبقرية الأشقاء الذين اختاروا هذا المكان بالذات ، حيث يمر الآف الطلبة والطالبات ، ليجسدوا هذا العناق الحار بين مصر والمغرب ، عناق العلمين رمزي الشرف والوطنية في كلتا البلدين العربيين الشقيقين. وليس افضل من عيون الناشئة وهي تتمعن في هذا المنظر المفعم بأغلى المعاني . بالمناسبة أدركت حقيقة أن أن القناطر الخيرية مخلصة في التزاماتها نحو التوأمة التي عقدتها ومدينة صفرو المغربية . وأنها قاطعة أشواطا متقدمة في هذا الموضوع . ومباشرة إلى " شاليهات " القناطر الخيرية ، وهي محطة سياحية قل نظيرها في العالم . حيث يقام مركب سياحي وسط الهواء الطلق في تناسق " هرموني " بين حداثة التشييد وجمال الطبيعة الخلاب ، بين نماذج من التراث الحضاري المصري القديم المجسد في تماثيل معدة بشكل انيق الإستراحة المطلة مباشرة على النيل ..حيث تنطلق الزوارق الخاصة  فى رحلة نيلية شاعرية لا تضاهيها اية رحلة في أي مكان آخر .  زوارق يقودها شبان مصريون يحفظون تاريخ بلدهم عن ظهر قلب ، فلا يكفيهم النطق باسم المكان بل يزيدون عليه درسا نموذجيا يغنيك استيعابه عن المزيد من الإستفسار. هناك جلست على الأرض فأحسست أنني أجلس على يساط مهما اخترع الإنسان من عطر لن يصل إلى تقليد العطر الطبيعي الفواح منها يغمر الصدر فيريحه من ضيق متاعب الحياة . هناك تذوقت الشاي الذي أعده خصيصا لي مغلى على حشائش المكان نفسه الرجل الطيب الكريم الحاج عبد السميع . وبجانبي جلس مرافقي العزيز عبد الله عبد الحافظ وكأننا نحن الثلاثة جمعنا لقاء في " الغيط " بعد عناء يوم قضيناه في زراعة أو جني القطن

أنفرد بنفسي في بيت شيد على أعمدة كأنها ترفع ساكنيه ليطل على قدرة الخالق سبحانه وتعالى الذي أبدع هذا الجمال وخلق به من الروافد ما يبهر البصائر والأفئدة فيقربها إلى الامتزاج الامتن بنقاوة الإيمان . في بيت كل ما فيه ينطق بالكرم المصري الذي أودعه الباري جل جلاله في صدور هؤلاء الناس ، فتصرفوا مع الغريب تسرف الأسرة مع أحد أفرادها .. بل مع أحبهم إلى الفؤاد . في بيت ما شعرت داخله ( إلا والنيل الملقى في عظمة بجانبه يبث في أذني حلاوة حكايات مع الحياة عبر ملايين السنين ) بالسعادة تغمرني ، وألفة المكان تنساب في خاطري لدرجة أنني ما شكوت صداع الوحدة ولا إرهاق ما نسميه بوضعية التحول من مكان إلى آخر مجهول لدينا . وكلما صحوت كان المؤنس صدى شحرور حط جنب نافذة حجرة النوم فوق غصن شجرة إنحنى حتي يكاد يقبل لجين النيل في منظر لن أنساه أبدا . وأغيب في صحوتي مع هذا الجو الشاعري ولا يخرجني منه إلا صوت الرجل الطيب عبد الله عبد الهادي عبد الحاقظ وهو يصيح خلف الباب

ـ إنت صحيت يابه ؟

ـ ايو يالسي عبد الله

ـ صباح الفل والهنا والإشطة .. إنت منور .. احضر لحضرتك الفطار ؟

ـ لو حبيت يالسي عبد اله

ـ من عني ياباشا

ولحظات وأجد فوق " السفرة "  .. صينية مملوءة بما تشتهيه النفس من مأكولات هي من خيرات مصر . بيض " مسلوق " و " فول مدمس " و " خضر مخللة " و مربى .. و" زبدة " ورقائق من الخبز " العيش " وزيتون أسود وشاي . اصناف متعددة لوجبة صباحية لم أعهدها من قبل . ولا أدري كيف كنت اتناول كل تلك الأطعمة ؟.. ربما الأمر راجع للذة طعمها ، والأسلوب المرح المعدة به ، أو ربما للجو الهادئ الذي أحاطني به الإخوة الأشفاء .. او ربما ـ وهذا هو الأرجح ـ خلاصة اللقاء بالحبيبة مصر

يتبع

مصطفى منيغ

متحف الري بمدينة القناطر الخيرية

غير بعيد عن مقر إقامتي شيد أضخم متحف ري على مستوى جمهورية مصر العربية . والتجول بين أركانه ، والتمعن في محتوياته من نماذج مصغرة لكل ما يوجد فوق النيل من قتاطر وحواجز وسدود ، يعد من أنفع الدروس وأكثرها وسيلة لمعرفة المجهودات التي بذلها الأنسان المصري ، منذ تواجده على هذه الأرض ، لأستغلال مياه النهر لفائدة إستمرار الحياة على ضفتيه . وما كان ذاك الدرس  أن يطرق الذاكرة فيلجها ويتربع وسطها لولا كفاءة هؤلاء الأساتذة المكلفين بالمتحف والمسؤولين عن إيصال محتوياته في إطار شروحات مبسطة لكنها مسهبة وكافية لعشرات الزوار الوافدين على المتحف يوما . تعلق الأمر بالتلاميذ أو الطابة المصريين أو الزوار المهتمين من مختلف بقاع المعمور . لقد إستقبلني مدير المتحف بكل حفاوة وأدخلني مكتبه لتسجيل حوار سانشره لاحقا وبالكامل ، وإنها إلتفاتة كريمة من سيادته  تنم عن أخلأق عالية واحترام عميق للمغرب والمغاربة . وكنت من القلائل الذين استمعوا في جلسة ضمتنا نحن الثلاثة العبد لله ومدير المتحف ومرافقي الرسمي الاستاذ محمد سعيد أبو زيد ، بعرض خاص ، داخل قاعة مبنية على شاكلة مدرج جامعي ، لقصة سريان النيل ومن عايش ذلك من إقامة حضارات متنوعة موغلة في القدم على ضقتيه .. من نبعه إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط ، بالصوت والصورة . كان العرض حقا في مستوى قدرة المؤرخ المصري والفنان المصري والتقني المصري على الإبداع والإتقان . ولقد اغناني العرض عن كل المراجع التي كنت في حاجة إليها لأكون فكرة عن الموضوع . وخرجت بانطباع أن الباحث على معرفة مصر يجب عليه المرور من هذا المتحق لأنه تجسيد مصغر لكل تاريخ مصر

يتبع

 مصطفى منيغ

مصطفى منيغ يسمع لشروحات مدير المتحف وبجانبه الاستاذ ابو زيد من موظفي المركز 
مدير المتحف يحدث مصطفى منيغ عن الكيفية التي يشتغل بها احد الجسور المقام على النيل في إحدى نقطه . ذاك الجسر المجسم بحجم مصغر المصنوع بكيفية لم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا ومنحتها ما تستحقه لتكون النسخة حتى في حجمها ذاك مطابقة تماما للأصل 

في قصر الثقافة للحرف البيئية

 

في الصورة .. أثناء تاريخ زيارتي للقاهرة . يظهر من اليمين إلى اليسار الاساتذة : الدكتور فروق عبد الوهاب ( المسؤول عن قطاع الطفولة بالمجلس الأعلى للشباب والرياضة بمصر ) . المهندس عبد الحميد نصار  ( رئيس مركز ومدينة القناطر الخيرية ) . مصطفى منيغ ( صحافي مدير ورئيس تحرير جريدتي " السياسي العربي " و " لماذا ؟ " الدولية ) . الحاج مصطفى مبارك( رجل أعمال .. إبن عم  رئيس جمهورية مصر العربية ) . حسن محمد أبو الفتوح ( مدير مساعد مركز تنمية الإدارة

 

في البداية طرقنا باب قصر الثقافة للخرف البيئية . وهو قصر بناه المهندس الشهير المرحوم حسن فتحي  . فاستقبلنا مديره الأستاذمحمد امين قطب بالترحاب مصرحا لنا بما يلي

نتواجد الآن فى قاعة   عرض أو " الصالة المتعددة الأغراض .. تكون مكتبة متنقلة وأحياتا لإ ستقبال الضيوف المشاركين في الندوات العلمية المقامة هنا كما تستعمل ايضا كمسرح او سينما شتوي إذ هناك سينما صيفية خارج القصر

قصرالثقافة  للحرف البيئية بقرية  المنيرة

منذ وصولي إلى الحبيبة مصر و لهفتي تزداد لزيارة ريفها و الإختلاط بأناسها وفلاحيها الكرماء الشرفاء ، الممزوج عرقهم الطاهر بتربة معطاء . بالفعل تمكنت من ذلك ، إذ انتقلت صحبةالأستاذين أحمد عبد المومن بحيري ، ومحمد سعيد أبو زيد  إلى قرية " كفر الشرفا الغربي " التابعة للوحدة المحلية لقرية " المنيرة " ، حيث قضيت يوما سيظل  منقوشا  في ذاكرتي أعود إليه ، بل استرجعه كلما  اعتراني  الشوق لمصر وأبناء مصر الأعزاء . في البداية طرقنا باب قصر الثقافة للحرف البيئية ، قصر بناه المهندس الشهير المرحوم حسن فتحي ، فاستقبلنا مديره الأستاذ محمد أمين قطب بالترحابا ومصرحا لنا بما يلي

      ـنتواجد الآن في قاعة عرض ، أو الصالة المتعددة الاغراض .. أحيانا تتحول إلى  مكتبة متنقلة ، وأخرى لإستقبال الضيوف المشاركين في الندوات العلمية المقامة هنا ، وأيضا  تستعمل كمسرح أو سينما  شتاءا إذ هناك سينما صيفية  خارج المكان . القصر مشيد كله بالطين لا غير من طرف المهندس المعماري حسن فتحي . وهو بناء تتجلى ميزته في محاكاة بيوت الفلاحين المشيدة بالطين الممزوج بالقش " التبن " المتبقى بعد عمليات تصفية القمح .طين " البن " المشيد به القصر يحيل الرطوبة أثناء فصل الصيف إلى جو بارد ، وعكس ذلك في فصل الشتاء حيث تتولد عنه حرارة معينة تحول الداخل إلى مكان دافئ  بمعني التكييف الطبيعي . وكما تلآحظون الجو بارد في الخارج وهنا تشعرون بالدفء نتيجة تفاعلات طين اللبن مع المناخ . حتي الجدران معمولة بسماكة تمتص الحرارة والرطوبة معا وفي نفس الوقت . ويستمر الاستاذ محمد أمين قطب في شروحاته القيمة ونحن نتجول داخل هذه التحفةالمعماريةالفريدة من نوعها . حتي إذا وصلنا إلىالفناء بادرنا بقوله

ـ نحن الآن في الباسي

شدتني الكلمة المأخوذة من اللغة الإسبانية وتعني الممر . وأتساءل : من أتى بها لتستعمل بهذا الشكل هنا ؟ شئ يحتاج إلى دراسة حقا  . الباسيو هذا تتوسطه نافورة تعقد حولها ندوات وبعض الإجتماعات .. خاصة في فصل الصيف  لما يتمتع به الفضاء من جو شاعري . المساحةالداخلية للقصر تتوزع على غرف مخصصة لتعلم الخياطة وصناعة " الحصائر " .. وأصناف أخرى لها علاقة وطيدة بمسألة الحفاظ على الثرات الذي يعتز الإنسان المصري بالتشبث به من قديم الزمان  يتبع

  


 

 

ويستطرد الأستاذ قطب مصرحا لي : قصر الثقافة للحرب البيئية هذا يعد مزارا لكبار الضيوف العرب و الأجانب .

    ونلج مباشرة إلى قسم " الحصير" حيث نلتقي بالحاج عبد الرحمان، القيم عليه. وبكل مشاعر الطيبوبة الصادقة نتصافح والرجل الكريم الذي رغم مظهره البسيط يخفي شخصية قوتها تكمن في تعلقها بمصر تعلقا لا تصفه الكلمات، ولا قصائد الشعراء.. إذ هو إحساس ملتصق بالإيمان والصفاء وحب الخير للجميع .. تعلقا يجسمه العمل الشاق لضمان استمرارية الأصلة المصرية في أفئدة ناشئة تلتف حوله مهيأة للاستيعاب حتى يظل الحاج عبد الرحمان ومن خلاله مصر في أعين الجيل الاحق أحلى صورة لأحلى موطن. وبلغة سلسة، وأدب جم، ولسان فصيح يخاطبنا الحاج عبد الرحمان:

    ـ نتواجد الآن داخل قسم الحصير الذي أنشأناه أنا ووالدي منذ سنه 1965 على عهد الرئيس عبد الناصر وموازاة مع نشأة هذا القصر. القسم هذا يتخذ لتدريب الناشئة على صناعة الحصير المسومة فيه لوحات من الفنون التشكيلية كما ترون من النماذج المعروضة على الجدران، تمكنت من تدريب ما يمكن حاليا من إعالة أربعين أسرة فما فوق، المهنة ذاتها مهنة حسنة، كل خاماتها من البلد، من هنا، من مصر، كالسمار. لا نستورد من أجل الاشتغال في حقلها أي شيء من الخارج، كل الخامات عندنا متوفرة، وهذا يدل أنها قابلة لضمان " عيش " كل المتعاملين في مجالها حتى المعاقين منهم. القسم مفتوح أمام الجميع ومستعد لتدريب العناصر الراغبة في تعلم المهنة. منتجاتنا التي تشاهدون قسطا منها شاركت في معارض مختلفة بمجمل البلاد الأوربية ونعتز بأننا نحصل على الرتبة الأولى في كل مباراة مقامة هناك مخصصة لاختيار أحسن إنتاج

يتبع

مصطفى منيغ  


القناطر الخيرية .. جوهرة مصر عبر الأزمنة

 

... اختصارا، وصلت إليها لأجد المفاجأة، وما أحلاها حينما تكون مقنعة ومتممة لتصورات، وتخيلات. وجدت جوهرة نقشها أبناء مصر الأجلاء بما يليق وعظمة وهذه الأمة الوارثة سبعة ألاف سنة من النضال والتدرج في المعارف الإنسانية جميعها، منقوشة بكل ما يحيط العين بهالة من الإعجاب والتقدير، وما يشمل البصيرة من عمق التدبير، وما يفتح للإبداع من وسائل العمل المصحوب بجليل النتائج وكغزار الفوائد. وجدت جوهرة تستحم في نهر الخير على إحدى ضفتيه فأتصور وأنا أحملق في حيز من لجينه أن مواكب المجد مقبلة تدغدغ عواطفي لأخلد إلى البوح بكل آيات الاحترام فأشعر بترنيمات تتصاعد أعماقي تردد الرجاء في قدسية أن يحفظ الحي القيوم سبحانه وتعالى هذا البلد العزيز من أي مكروه،أجد جوهرة تستحم على شاطئ نهر مبارك لتبدو أكثر إشراقا وأزيد لمعانا من أي مكان آخر في العالم، تستحم بالقرب من أوسع نقطة يتميز بها النيل عن سواها عبر سريانه ليعانق البحر الأبيض المتوسط .

     ... ومنذ الوهلة الأولى، وخدمة لأمانة ونزاهة الصحفي الذي يتحمل مسؤولية إسناد الأشياء إلى أصحابها، من واجبي القول أنني وجدت في صديقي العزيز الأستاذ محمد سعيد عبد العزيز أبو زيد المساعد الكفء والمرافق النبيل والأنيق والناصح والمجيب الصريح عن كل استفسار بادرته به. وخاصة أن يعرف لي مدينة" القناطر الخيرية" كما يعرفها هو شخصيا لا كما هو مذكور في بعض الكتب، وبدون تردد وبعفوية ذكر لي ما يلي:

                            (يتبع)

                مصطفى منيغ    





 

   يستمر الحاج عبر الرحمان القيم على قسم الحصير في قصرا لثقافة للحرف البيئية في قرية المنيرة المصرية مفسرا لي :

  ــ نعمل يا أستاذ مصطفى منيغ ما في وسعنا حتى لا تنقرض هذه الصنعة، وهذا ما يجعلنا نشجع الأولاد وندربهم على تقنياتها. ولا تفوني الفرصة لأشكر وزارة الثقافة التي أتاحت لنا إقامة الأقسام الفنية المتخصصة هنا. ولسيادتك الأمر في طرح أي سؤال في الموضوع.

   قالها الحاج عبد الرحمان بثقة المتمكن الواعي بثقل المسؤولية التي يتحملها كمربي لأطفال على صنعة لها مكانتها الخاصة عند غالبية الفلاحين ولها عشاقها في مختلف بقاع العالم، ولها جذورها الضاربة في أعماق المقومات الحضارية، وهذا ما جعلنا نستزيد من الاستماع لهذا الخبير الأصيل حينما سألناه:

    ــالحاج عبد الرحمان، أرى الرسامات المنسوجة على الحصائر ترمز إلى العهد الفرعوني، فهل أعمالكم التشكيلية تنحصر في نفس الرموز دون غيرها أم ثمة أشكال أخرى ؟ .

   يجيب الحاج قائلا:

  ــ بالعكس نسجل حتى الأحداث الشهيرة، بابتكارنا أشكالا تخلدها، بالنسبة لهذه اللوحة مثلا فتجسم أحداث الخليج وما وقع بين الكويت والعراق. هنا السعودية قائمة هي الأخرى بالإضافة إلى القوات الدولية، باختصار اللوحة تتشكل من رموز تجسم ما حصل أثناء حرب الخليج، بالنسبة للوحات الأخرى ( يعرض علينا بعض الحصائر التي كانت ملفوفة في ركن من القسم الدراسي ذاك) فهذه تفسر فكرة القراءة للجميع، وهذه لسيدة أمية تحيا بعقلية متأخرة، لا تقرأ ولا تكتب، وتمسكا بمبدا القراءة للجميع انصرفت للتعليم... الإبريق يرمز لوسيلة تنظيف نفسها من شوائب وويلات الجهل. وهذه لوحة يفهم منها التصوف وتعدد المذاهب، وتنوع المشايخ، تجمع ما بين أصحاب الطرق الصوفية أمثال سيدي إبراهيم الدسوقي ، وسيدي أحمد الرفاعي ، وسيدي أحمد البدوي، وسيدي عبد القادر الجلالي . أما هذه اللوحة التي تشاهدها سيادتك اللحظة والتي لم تكتمل بعد تعتبر تعويضا البساط / السجاد معمولة بأشكال هندسية. أما الأخرى فتفسر وبوضوح أصحاب الثورة الثلاث، تجد الدماغ وهو "السادات"، الأنف والعينين " الرئيس جمال عبد الناصر "، الفم والرقبة " الرئيس حسني مبارك... أحيانا أسأل لما اخترت هذا الرسم على هذا الشكل فأجيب: أن السادات فكر في موضوع السلام، والرئيس جمال عبد الناصر كان يشاهد بعينيه ويشم بأنفه، بأنه لم يرض لا على نفسه ولا على البلد و ما عرفته خلال مرحلة ما من مظاهر الظلم، أما الفم والرقبة وعلاقة الرئيس حسني مبارك بهما... كونه الموجود حاليا والساهر على تحقيق الإنجازات والحامل المسؤولية، أحيطكم علما الأستاذ مصطفى أن مضامين اللوحات وشكلها من ابتكاراتنا العفوية والتلقائية.

   ــ نسأل الحاج عبد الرحمان:الحصير ينتج لتستفيد الأسر داخل بيوتها منه أو مجرد زينة تعرض ويتفرج عليها الزوار الأجانب من أجل اقتنائها ؟

  ــ يجيبنا الحاج عبد الرحمان قائلا: في البداية كان الاستخدام كفراش ولكن مع التطور اقتحمت المواد المصنعة الأخرى البيوت فأصاب المنتوج ما أصاب من فتور الاستعمال. ومع معرفة الحقيقة، حقيقة جودة المنتوج وتكيفه مع الجو حارا كان أو باردا استعاد الاستخدام اعتباره داخل نفس البيوت. حتى الأثمنة فمناسبة، مثلا المتر من الأبيض يكلف ما بين أربعة إلى خمسة جنيهات، أما الحصير المزين بلوحة تشكيلية فكل واحدة وثمنها، الحصير ذو اللوحة المجسمة لحرب الخليج أشعرت أن سائحا أراد شراءها ب 100 دولار لكنني رفضت، السبب أنني لا أبيع أثارات مصرية... جائز أن أختفي غدا ولن يتسنى صنع مثيلا لها. هذا المنتوج يعتبر تراثا مصريا وأنا لا أبيع تراث بلدي فهو ملك للدولة ولست سوى موظف أتوصل براتب شهري وأنا مطمئن 24 قيراطا. حاليا أقوم بتدريب 6 أولاد، حضورهم المستمر يجعل منهم تلامذة رسميين. قد يستغرق التدريب شهورا معدودة أقصاها سنة بالكامل وذلك حسب نباهة كل واحد وقدرته على الاستيعاب. المتخرج من هنا يصبح فنانا تشكيليا وليس صانع " حصير" فقط.

    ــ ونتدخل لنطلب من الحاج عبد الرحمان كلمة يوجهها إلى زملائها الصناع التقليديين في المغرب، فيقول بالحرف الواحد:

   ــ باندفاع بريء وكلمات نابعة من قلب كبير أوصي الصانع التقليدي المغربي بعدم أخذ " رسومات " غيره ويعتمد على ابتكاراته التلقائية وأن لا يقلد أحدا. وأن يعيش مع اللوحة التي يشغل فيها أو ينتجها بجوارحه وعقله ليكون عمله في المستوى ومرضي لكل الأذواق. ومن كرم الله سبحانه وتعالى أن جعل لكل بلد عربي حضارة لن تندثر أبدا. بالنسبة للبلاد العربية سواء كانت المغرب أو مصر أو دول الخليج فالحضارة موجودة داخلها، أما أوربا فسارقة لهذه الحضارة ومنا نحن الأمة العربية، هذا الكلام مصدره الواقع وليس تخيلات، فأنا رجل أبلغ من العمر 55 سنة ومسئول عنه، لذا أوصي جميع الحرفيين أن يسهروا على تنمية هذه الحرف المرتبطة أساسا بصلب الحضارة القديمة والتراث الذي نفخر به، فإذا انعدمت التراث نفسه انعدم، وإذا علمنا أن جميع الأمم تتباهى بالحرف اليدوية المتواجدة عندها علمنا بأهمية هذه الحرف عندنا.شخصيا أسمع كل خير عن المسئولين في المغرب بأنهم يشجعون الحرفيين على الإنتاج المستمر وتطويره.

         ... كم كنت سعيدا وأنا أعانق الحاج عبد الرحمان، هذا الرجل الشهم الذي أعجبت بإصراره على تمثيل عينة أصيلة من رجوفاز بالرتبة الأولال الريف المصري، بما يمكن هذه العينة من الاحترام والتقدير وبما يضفي عليها من هالة لن يقدر الزمن على زحزحة ولو ذرة بسيطة من إشعاعاتها القوية النيرة. وكم سررت وهو يقدم لي طفلا ممن تلقنوا تدار يبهم بالقسم نفسه مشارك في مباراة اختيار أحسن منتوج مصنع يدويا أقيمت في دولة التشيك وفاز فيها بالرتبة الأولى

(يتبع)

مصطفى منيغ

 

لا زالت اللحظة السعيدة عالقة بذهني وكأنها الوقفة الرمز مع زمن مهما مر كالطيف يترك بصماته على الذاكرة وبعدها لن تبرح الصورة البصر والبصير معا. لم تكن في عرف التوقيت العادي لمقابلة تمت بين مواطن وشقيقه، وإنما كانت محطة وصلا إليها معا بعد تسلقهما جبالا من حواجز البعد، محطة بقدر ما بدت جميلة بقدر ما اعتلى أفقها تجهم واقع الفراق من جديد. وذاك الصوت المشحون بقوة العربية وهو يردد في حماس وإعجاب لهما أكثر من مغزى ، وأزيد من معنى ، آخرها الإعراب عن تحدي إرادة اللقاء حينما يكون على مستوى المحبة الصادقة التي لا تشوبها شائبة ولا تعكر صفوها قلة الإمكانات أو قصر اليد ليستمر ويستمر مهما طال العمر ، ذاك الصوت وهو يردد :

       الإخوة القيادات التنفيذية بمركز ومدينة القناطر الخيرية باسمكم جميعا ، وباسم المهندس عبد الحميد توفيق نصار نرحب بأخ عزيز علينا ، قيادة من القيادات الصحفية بالمغرب الشقيق ، باسمكم جميعا نرحب بالأستاذ مصطفى منيغ ، وهو موجود بيننا الآن .

        كان الصوت مصدره أخي وصديقي العزيز: سمير عبد الرحمان النجار ، مدير إدارة شؤون المجالس المحلية ، وكانت الكلمات التي فاه بها موجهة إلى السادة أعضاء مجالس " أبو الغيط " و " شلقان " التابعين لمركز القناطر الخيرية ، بعدها كان لزاما علي أخذ الكلمة وأخاطب الأخوة ونحن يجمعنا ذاك اللقاء الموسع المبارك بكلمة اقتطف منها الفقرات التالية:

        بسم الله الرحمن الرحيم   والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وآله أجمعين إلى يوم النشور والدين.

       السادة الأفاضل ، رئيس وأعضاء المجلس الشعبي المحلي  ل: أبو الغيط وشلقان ، تحية مغربية أصيلة وبعد :

       مبادرة طيبة ، صادرة عن أخ عزيز الأستاذ المهندس عبد الحميد نصار ، رئيس مركز ومدينة القناطر الخيرية ، الذي أبى مشكورا إلا أن أجتمع بهذه الصفوة الخيرة من أبناء مصر الحبيبة ، لتتجسم الرؤية الحميدة المحمودة الممثلة في تشييد جسر من التآخي المتين والتعاون المثمر البناء ، ومضاعفة ما من شأنه ترسيخ التواصل بيننا نحن أفراد الشعبين الشقيقين المصري والمغربي . وإنني إذ اشكر الباري جل وعلا الذي مكنني سبحانه وتعالى من هذه الزيارة ، وأوصل الجريدة التي أديرها وأرأس تحريرها إلى هذه المكانة ، فإنني أتضرع اليه وهو العلي القدير أن يحفظ البلدين مصر والمغرب من أي مكروه ، وأن يبوئهما اسمي الدرجات بين الأمم والدول حتى يتحقق للشعبين الكريمين ما يطمحان إليه من تقدم وازدهار .

          السادة الأفاضل:

           من هذا المنبر الموقر أوجه الشكر لمعالي الوزير المحترم الأستاذ الدكتور محمد عادل إلهامي ، محافظ محافظة القليوبية ، الذي شرفني بمقابلة خرجت منها بارتسام لن أقدر في عجالة على جمع محاسنه ، فقد شملني بالرعاية ، مما يؤكد تقديره للصحافة والصحفيين ، كما اشكر الأستاذ عبد الحميد نصار الذي رأيت فيه المسئول المخلص لعمله ، الباحث عما يضيف به من منجزات تجعل من القناطر الخيرية مدينة ومركزا منهل إشعاع حضاري في مستوى الرمز الذي تمثله ، والذي يحاول ربط العلاقات المغربية المصرية بما يمكننا جميعا من مجالات واسعة من البناء المشترك خدمة لمصالح البلدين الشقيقين

         ... في نهاية الاجتماع يفاجئني الأستاذ عبد الحميد توفيق نصار وسط تصفيقات الحضور الكريم وهو يقدم لي باسم مدينة القناطر الميدالية الذهبية ، وهو تشريف وتكريم لشخصي المتواضع سعدت به أيما سعادة ، وسيجعل من هذا اللقاء لحظة تبقى راسخة في ذهني وكأنها الوقفة الرمز مع الزمن مهما مر كالطيف يترك بصماته على الذاكرة ونعم ما يترك .

                       (يتبع)

  مصطفى منيغ

               

 
  Aujourd'hui sont déjà 19551 visiteurs (29140 hits) Ici!  
 
---------- Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement